مقالات وكتابات رأي

مَجْدُاً حضرمي

رُبعُ سَاعة .. على مَحركٍ هادئ .. أستغرقُتها بلطف .. لأصل إلى القرية
الماجِدة .. التي صوَرَها رَبُنا في رَحِم الطبيعة .. بأزها حُلة .. وأجمل
عِقد .. والناظر إليها ليجدها نهراً .. وشعابِها جداولُ مترامية على ضَفتيها
.. تقشفت العَرسمة ميقاتِ إحرام الزائر إلى دوعن الأيسر .. ضاحِكةً على
إستحياء .. وفي فَمِها مسحوق النبق .. بعد أن امضت حقبة في رِحاء الصراعات
القبليّة .. هنالك في منجرة الرجال الصناديد .. والأفذاذ الكرام الأصدقاء ..
من آل محروس .. كانت الشَمسُ تحزم امتعتِها للذبول .. وبدأ الليل في الأفق
يسفك دم الصباح .. فساح حمّام من الشفق الأحمر .. حينها تحدثنا عن الأديب
الأريب الثائر المُهيب .. محمد أحمد باشميل ( رحمه الله ) .. ولدّ باشميل في
قرية العرسمة عام 1336هـ .. ونشأ فيها نشأة مستقيمة .. ثم ركب رياح العلم لتحط
به في تريم الغناء .. ثم أرتحل محملاً بما لديه من علم إلى إرتيريا وفيها صال
وجال حتى عام 1368هـ .. ثم عاود الحنين إلى الوطن ليتلبس في جنباته .. فنهزم
أمامه ورجع إلى مسقط الراس .. ثم غادر إلى السعودية عام 1370هـ .. حيث شغل
منصب سكرتير رئاسة اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ومنذُ عام 1372هـ وفي كل
صباح ثلاثاء من اﻹذاعة السعودية باسم هيئة اﻷمر بالمعروف يشرق على مُستمعيه
بالمواضيع الشيّقة .. لقد كان باشميل شاعراً .. ممتطي الشعر ذلك الصوت الصارخ
الخارج من جُسيمات النفس .. بل من أسفل اغوارِها .. ليُسبك في اللغة عنواناً
حياً على النفسية التي بعثة من قراره الوجدان إلى عالم الخطاب .. أديباً
يتحدث بلغة الجرأة والصراحة والقوة المتمكنة من سطوة الحق .. وما أن لاحَ على
وجهه في تلك اللحظة التي أخذ يخاطب بها الاشتراكيين والشيوعيين .. وأهل البدع
واﻷهواء والشكوك .. ليقصيهم بالكتابة والنقد الأدبي الفاخر من غير المساس
بوحدة الزجرِ والشتم .. مما زاد على صفاته من صفةٍ الاّ انفعال ممسوس بكآبة
شديدة ازدادت معها مسحة ذلك الحزن العميق الذي خطًّتهُ يدُ القدرة على محيّاه
.. ويأبا باشميل إلاّ أن يَدُك معاقل الأعداء .. بشواظٍ من نار .. ويوجه
الصفعة تلو الأخرى .. ليمحق ادعائتِهم الفاجعة .. ويطمس افترائتِهم الباطِلة
.. ليقصيهم من اﻷرض ليصّعدوا إلى السماء .. فتضيق حناجرهم ويقل تنفسهم
فيختنقوا .. وما أكسبه موهبة التحليل البارعة التي تعممت في رأسه.. وتضلعت في
سَقر عَقلِه .. إلاّ نتاج متأصلة في تُلباب النقد .. ولفافة الطرح .. وعجاج
النظر الثاقب .. اللائي يَنُمْنّ عن فلسفة اﻷراء .. والتبحر في العلم ..
فالمواد اﻷدبية النقدية التي خطتها يمناه غاية في الأهمية والنظام .. لبيبة في
الأفكار .. فاتنة الرشاقة .. ينفخ من خلالها روح القومية العربية واﻹسلامية
.. حاث على التعلق بالمبدأ المتجذر .. لا ادري عن تعال أو هجر لشرود في طبعه
.. ولكن انطبعت لهُ في ذهني صورة رَجل مفرط في التأنق .. مُدشِناً صحبة الفكر
والسلاسة في كتاباته .. التي تتسم بالمألوف والأداء الفعلي في السرد .. و
أتخيّل أنهُ يأوي إلى حديقتِه .. ليجتمع بعامة الصباح يناجي فيه زقزقة الطيور
.. وربما كانت لها السبق في هذا النسق الأدبي الظاهر .. وفي مَنْكِباً أخر ..
يُوقد على البيانِ سِحرا .. وجمالٍ أخاذٍ للألباب .. لا يكادُ أن يُحد ..
والكتب التي نشأة على يده .. وخلاصة فِكره .. وليدة لذتهِ الفنيّة .. وليست
وليدة الزّهو الماجن .. والرهبة والمجاملة .. لينال التصفيق من الغير .. وليسَ
أديباً مُقلِداً أو لِصّ نصوص .. بل مُبتكِراً سرجاً جديد في الساحة الأدبية
الحضرمية بالخصوص .. والعالمية بالعموم .. كان أجدر أن نتسلل برهبة خفيّة
لدراسة مؤلفات أمثال هؤلاء الأُدباء الحضارِمة .. قبلَ أن نقتص الأثر للأدباء
الأخرين .. ويأتي موعداً ليسَ عَنه موئِلا .. وتنسل روح باشميل كالنسيم
الخافت في حرقة الشَمس .. مُبتعِدة إلى خالِقِها يوم الجمعة 26 ربيع الثاني
عام 1426هـ .. تارِكاً وراءه خامةً خصبةً مُهيئةٍ للإرتشاف مِنها .. ولا تجدي
أن تُكبّل مُضيُها في النجاح .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى